ماذا يحوي دولابك؟

لو سألتك عن محتوى دولابك (خزانتك أقصد)، فمهما كان موقعها من حياتك، سواء في بيتك أو مقر عملك، فأظن أن جوابك سيكون حاضرا وبشكل واضح.  سوف تتخيل شكل الدولاب وتقسيماته، ومحتوياته من ملابس أو ملفات وأوراق، وستكون الصورة غنية بالألوان، وحتى الروائح العطرية ستكون حاضرة في ذهنك.  وإن تماديتُ وسألتك عن ماذا كان يحوي دولابك بالأمس القريب أو البعيد، فأظن والله أعلم أنك ستكون حاضر الذهن وجاهز الجواب.

الآن.. لو سألتك: “ماذا يحوي دولابك أنت؟”.  ربما تجيبني: “ماذا تقصد؟ لقد أجبتك بكل محتوياته وفصلت لك تفصيلًا مملًا؟ ماذا تريد بعد ذلك؟”.  سأقول لك: “ماذا يحوي دولابك أنت أنت؟”.  وعندها قد أكون خسرتك، قبل أن نبدأ رحلتنا الحقيقية واكتشافنا لأهم دواليب حياتنا!

يا عزيزي/عزيزتي.. كنت أقصد: ماذا يحويه دولاب ذاتك؟ وعلى ماذا تنطوي نفسك؟ ما هي تقسيمات نفسك الداخلية؟ وماذا يحتوي كل قسم منها؟ ما هي ألوانها المنعشة أو الباهتة؟ وروائحها الزكية أو المزعجة؟ ماذا تعرف عن أساليبك وأنماطك وسماتك بمختلف أشكالها؟ وكيف هي مع تشكيل ذكرياتك وحياتك؟.

هذا يا عزيزي ما يجب أن يكون أولى بحضور ذهنك واستحضار التفاصيل.  ولا ملامة! فنحن نعيش الحياة المادية ونرتحل فيها ونعالجها وننهم من كل مواردها.. أما حياتنا النفسية أو الروحية، فتأخذ المقعد الأخير من الطائرة، وربما عاملناها معاملة العفش الزائد، فخففنا منها، أو ذهبت في المفقودات من غير سائل عنها أو محقق في أمرها.

في هذا المقال، سأعرض لك فكرة #دولاب_الذات وتقسيماته الثمانية، والتي عن طريقها تستطيع معرفة نفسك، وزيادة وعيك بذاتك.  وهذا من أهم الأمور حتى نخوض حياتنا على وفاق مع أنفسنا، وعلى دراية بما يحركنا أو يعكرنا، وعلى تكيّف وانسجام مع ظروفنا والأشخاص من حولنا.

ثمانية جوانب في ذاتك يجب أن ترتحل في هذه الحياة وأنت على دراية بها

وهي تشكل تقسيمات دولابك، وغالبا ما يكون اكتشافها رحلة لا تنتهي، بل تبني على خطواتها بثبات.  تختلف هذه التقسيمات فبعضها أمور إيجابية، مثل: الدوافع، ونقاط القوة، والمهارات، والاهتمامات، والقيم.  والبعض الآخر حيادي، مثل الشخصية.  وبعضها الآخر يتسم بالسلبية، مثل: المخاوف، ونقاط الضعف.

ولكن يجب علينا أن نعرف أنه لا وجود لإيجابي مطلق ولا لسلبي مطلق.  فأحيانا قد تكون دوافعنا أو قيمنا نفسها سلبية، رغم أن الحديث عنها عادة ما يكون في سياق إيجابي.  فدافع “المال” مثلا، لا يسلم دائما من الشوائب، كما أن قيمة “البحث عن الإطراء” قد تزج بنا في سجن نظرة الآخرين وقبولهم لنا.  وكذا، قد تكون مخاوفنا مصدرا لحمايتنا من المخاطر، كما أن نقاط ضعفنا قد تكون دافعا لنا للتطوير والتعلم.  لذلك وجب النظر لموضوع الإيجابية أو السلبية في سياق عقلاني متزن.

والآن، لنعرض سريعا تقسيمات دولاب الذات الثمانية!

1| الدوافع

البشر لا يعملون عملا أو يعيشون حياة من غير أن يكون لديهم دوافعهم التي تحركهم للجهد والعطاء.  والسبب أن الراحة هي أقرب للنفس من التعب، والعمل مقرون غالبا بالجد والكد والعرق.  وإذا لم يكن للإنسان دافع يحركه، فسيميل بفطرته إلى السكون والراحة، والتي سرعان ما يملها لأنه لم يخلق لذلك —على الأقل ما دمنا في هذه الحياة الدنيا.  وبالتالي عندما تغيب الدوافع عندك، أو بالأصح تغيب معرفتك بها، يصبح لديك فجوة تشطرك بين راحة تملُّها و عمل لا تعرف لماذا يجب أن تهُمَّ به!

وموضوع التحفيز والدوافع، تكلموا عنه كثيرا.  وقد تحدثت في مقالة سابقة عن اكتشاف الدوافع وتحقيق الرضا في العمل.  والأهم دوما في سياق الدوافع أن نميز بين الدوافع الداخلية (Intrinsic Motivators) والدوافع الخارجية (Extrinsic Motivators).  والسياق في مقالي هذا غالبا ما يكون عن حوافزنا ودوافعنا الداخلية أكثر من الدوافع الخارجية. 

تطرقت في تغريدات سابقة إلى موضوع التحفيز الذاتي والذي غالبا ما يغطي ستة جوانب رئيسية، هي: الغاية والهدف، الاختيار والاستقلالية، التمكن والجدارة، العلاقة والترابط، التقدم والأداء، والتطور والتعلم.  وذكرت سابقا كيف أن “إدغار شاين” ينظر للدوافع على أنها ركائز مهنية ثمانية، يصبح بعضها مع الوقت (غالبا ٢-٣ منها) هو المحرك الحقيقي لحياتك المهنية واختياراتك لما تحب أن تقوم بعمله.

الفكرة دوما، ومهما كانت التصنيفات والأطر التي تمثل دوافع البشرية أو الدوافع المهنية، هو أن تكتشفها وتعرفها جيدا بالنسبة لك أنتَ.  لأن ذلك هو وقودك للهمة بالعمل، وفرصة لمعرفة ما إذا كانت وظيفتك أو حياتك المهنية لا تستند وتستفيد من الركائز الصحيحة. 

فمثلا، لو كان أحد دوافعك هو “الاستقلالية”، فستجد أن العمل مع مدير خانق يحاول أن يرسم كل خطوة لك، ويحتضن كل القرارات عنده، سيكون عملًا مضنيًا.  كما أن غياب فرص تنمية جدارتك الفنية أو جدارتك الإدارية – أيها كان من ضمن دوافعك – سيصبح هاجسك الذي لا يسمح لك بالرضا عن أسلوب عملك.  كما أنك ستعرف سبب حبك لمجال ريادة الأعمال من عدمه، وكل ما فيها من مغامرات وتحديات، لو كانت دوافعك هي “الإبداع الريادي” و”التحدي الخالص” مثلا.

2| نقاط القوة

بحث عالمان، هما كريستوفر بيترسن و مارتن سيلجمان، لعقود من الزمن عن أهمية التركيز على نقاط القوة، وكيف يمكن تمثيل البشرية في مجموعة منها تكون مشتركة عالميا وبغض النظر عن اختلاف الأعراق، والأديان، والأجناس، واللغات، والبلدان، والثقافات.  وخرجا بعدها – مع جم غفير من علماء النفس والباحثين – بالكثير من الفوائد المدعومة علميا، وكيف أن التركيز على نقاط القوة واستغلالها يساعد في جوانب عدة منها:

  • أنها تحقق الصحة النفسية والحياة السعيدة
  • تعزز الأداء الوظيفي في أي مجال استخدمتها فيه
  • تمكن الارتباط أو الاندماج الوظيفي مع بيئة العمل
  • تنمي وتقوي الروابط والعلاقات الشخصية والمهنية
  • تعزز من الثقة بالنفس وتقدير الذات

ثم صنفا نقاط القوة والتي ركزا فيها على “الشخصية” البشرية (Character Strengths) في ستة فضائل و٢٤ نقطة قوة.  عرضتها سابقا في انفوجرافيك نقاط القوة الشخصية.  وكيف أن عددا منها (من ٥-٧ تقريبا) تشكل توقيع شخصيتك والنقاط التي تميزك عن غيرك وبدرجات متفاوتة.

معرفتك لنقاط القوة، سواء في سياق حياتك الشخصية أو المهنية، له فوائده كما ذكرت سابقا.  ولا يهم، إن كنت تستخدم النموذج السابق، أو نموذج نقاط القوة (Strength Finder) المشهور من جالوب (Gallup)، أو حتى مخطط نقاط القوة (The Strengths Profile) الذي هو من أعمال عالم النفس والباحث أليكس لنلي.  المهم أن تكتشفها، وتعزز تركيزك عليها، وتستغلها سواء في اختياراتك وبناء حياتك المهنية، أو تسويقك لعلامتك الذاتية، أو حتى للتغلب على نقاط ضعفك.

3| المهارات

لا شك أن المهارة هي أكثر شيء يراه ويلمسه الآخرون لديك.  ونعرف دوما كيف أن المناهج التعليمية والتدريبية، كما أن الخبرات العلمية والمهنية، تحاول أن تبني وتطور مجموعة من المهارات التي تمكنك من أداء عملك على الوجه الصحيح، أو التعامل بالطرق الصحيحة مع المواقف والأشخاص وكل ما ينطوي عليه ذلك من تحديات.

من الجميل أيضا أن نوسع فكرتنا عن المهارات (Skills)، وأن نعرف جيدا أن ما يهتم له سوق العمل ويحاول التعامل معه هو الجدارات (Competencies) لشمولها وترابط مكوناتها الثلاثة: المعرفة (Knowledge)، المهارات (Skills)، السلوكيات (Attitudes).  فمثلا، قد يكون لديك مهارة فنية في برنامج الإكسل.  ولكن جدارة “تحليل البيانات” تشمل أكثر من ذلك!

ففي تحليل البيانات، مثلا: هناك 1) معرفتك بنوعية البيانات التي تتعامل معها والخوارزميات المناسبة لها، 2) مهاراتك في برنامج الإكسل، وكذلك في طرق سحب البيانات من مصادرها، ومعالجتها، وتهيئتها، وإخراجها.  وأخيرا، 3) سلوكياتك في محاولة تقمص ما يحتاجه العملاء، واستيعابك وقراءتك لمعاناتهم، وأيضا ما تهدف إليه شركتك أو إدارتك من هذا التحليل.  كل هذه الأجزاء تفسر وتبني جدارتك في تحليل البيانات، وغالبا ما يكون لها مستويات عدة يمكن معرفتها وقياسها.

وأخيرا، معرفتك بقدراتك (Capabilities) هي الجزء الأعظم والأصعب في المعادلة.  فكما أن المهارة تبني مع مهارات أخرى وتندمج مع المعرفة والسلوكيات لتشكل الجدارة.  فإن الجدارة مع وجود التمكين بالفرص والدعم بالموارد والتعاون مع الفريق، تصبح “قدرة” يمكن توظيفها وحصد فوائدها في الحال.  فمثلا، وجود جدارة “إدارة المشاريع” عندك لا يعني أنها أصبحت قدرة تلقائيا.  فهناك الحاجة لوجود دور ومسؤوليات لإدارة المشاريع، مع وجود الموارد والأدوات اللازمة لذلك، وأيضا مع وجود فريق يساعد في التنفيذ.  بدون تلك العوامل، يصبح من الصعب أن نقول أن لدينا قدرة على إدارة المشاريع!

4| الشخصية

أما عن الشخصية، فحدث ولا حرج.  هي فعلا أول ما يتبادر لنا عندما نتحدث عن الوعي بالذات، وهي أول الأبواب ولوجا من الناس إذا أرادو أن يتعرفوا على ذواتهم.  وفيها كتبت المقالات والكتب، وألّفت اختبارات الشخصية، غثّها وسمينها.  من الاختبارات ما يكون من باب التسلية، ومنها ما يكون معتمدا على أسس علمية وبحثية رصينة. 

أما عن اختبارات الشخصية التي بُحثت جيدا، وعرفت أساساتها العلمية فمنها مقياس “الأبعاد الخمسة للشخصية” (Big5 Personality Traits).  والذي يحكي أن الشخصية يمكن معرفتها بتفكيكها إلى أبعادها الخمسة الرئيسية:

  • مدى الاجتماعية – Extroversion
  • مدى الانسجام – Agreeableness
  • مدى الانضباط – Conscientiousness
  • مدى الاستقرار العاطفي – Emotional stability
  • مدى الفكر والخيال – Intellect/Imagination

وقد أتحت نسخة مبسطة من الاختبار (مكونة من ٥٠ سؤالًا) باللغة العربية والإنجليزية هنا، واعتدمت فيها على مرجعيتها من موقع IPIP

وهناك النموذج المشهور باسم (MBTI) والذي قدح في تاريخه ونشأته بعض الباحثين وعلماء النفس، ومازال يستنكره البعض في جدية استخدامه للحياة المهنية.  إلا أنه أثبت صحته إحصائيا، والأهم أنه ما زال يثبت جدارته وفائدته في الساحات الشخصية والمهنية.  تكلمت عنه سابقا في محاضرات تفاعلية كثيرة، ونشرت الشرائح التي استخدمتها في حديثي عن الأنماط والسمات الشخصية في بيئة العمل.

 لماذا تهتم لمعرفة أنماط شخصيتك؟ لأنها بكل ببساطة ستفسر كثيرا مما قد يكون محل غموض بالنسبة لك من ناحية المواقف، وطريقة التفكير، والقرارات، والأعمال.  فمثلا، عندما تعرف أنك تميل لحب العزلة، فإن ذلك يفسر لك عدم حماسك للاجتماعات والمناسبات الكبيرة.  كما أنه لو عرفت أنك تقدّر العفوية والمرونة، لوجدت تفسيرا لموضوع استصعابك للتخطيط المفصل والتنظيم الدقيق، وأنك غالبا ما تقول لنفسك: “كيف يمكن لهؤلاء أن يضعوا أهدافا أول السنة ثم يحققونها بكل سهولة بنهايتها؟!”. 

وبالنسبة للأمثلة الأخيرة، هذا لا يعني إلغاء التخطيط تماما من حياتك أو التخلي عن كل المناسبات الاجتماعية، وإنما الفكرة معرفة السبب من منطلق نمط الشخصية.. ثم معرفة كيفية التأقلم والتعامل مع سماتك الشخصية، كما سأبين لاحقا في هذا المقال.

5| المخاوف

المخاوف هي تلك الأشياء التي نتجنبها لأنها تصبح مصدر قلق لنا، وهي غالبا ما تكون حجر عثرة في طريق نمونا وتطورنا شخصيا ومهنيا. فمنا مثلا من يهاب المغامرة أو المخاطرة، سواء بنفسه أو بجهده أو بماله، وقد يكون ذلك محمودا.. ولكن بعض المواقف قد تتطلب الشجاعة أكثر من الحذر.  ومنا مثلا من يهاب الحديث على الملأ والتحدث مع الجمهور. 

ومنا أيضا من يجد صعوبة في تفويض مهامه اليومية لمن تحته من موظفين سواء مخافة ألا ينجزوها بالطريقة السليمة، أو مخافة على موقعه ومسؤولياته الإدارية.  ومنا كذلك من يتجنب أن يستشرف دورا قياديا إما من باب التواضع وأن “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”، أو لأنه لا يرى في نفسه الجدارة الإدارية والقيادية والقدرة على تحمل المسؤولية.

معرفتك لمخاوفك تبدأ بالاعتراف بها أولا، وقد يتطلب ذلك طلبك لمرئيات ونظرة الآخرين.  ومن ثم تقييم تلك المخاوف ومعرفة أسبابها، فكثير من المخاوف تنم عن قلة التجربة.  وقد رأيت نفسي، وكثيرين من حولي، من يخاف ويتجنب أمرا معينا لأنه لم يجربه قط.  ومن التجربة الأولى، ينحل الخوف ويذوب، وينفتح للشخص بابا كان يؤصده على نفسه.  اذكر مثلا: أول مقابلة شخصية لك، أو أول عرض ألقيته على آخرين، أو أول مشروع أدرته، أو أول فريق قدته.  كل هذه من الأمور التي قد تكون مصدر خوف لمجرد أنها تجربة جديدة بالنسبة لك.

من بعد ذلك، يمكن للشخص أن يقيم مخاوفه من منطلق تأثيرها على حياتها الشخصية أو المهنية.  فكلما كان الأثر ضئيلا أو لا يذكر، كان تقبل تلك المخاوف والتعايش معها أسلم من محاولة معالجتها.  أما إن كانت تلك المخاوف تشكل حجر عثرة في طريق نموك وتطورك، واستغلالك للفرص التي تعرض نفسها عليك، كان التعامل معها أمرًا محتومًا.

كما أنه من المهم ألا يلتبس علينا أن وجود المخاوف لا يعني غياب المهارة أو الجدارة.  فخوفك من العرض والإلقاء على الجمهور، لا يعني أنك لا تمتلك تلك المهارة.  كما أنها أيضا يمكن أن تكون من نقاط قوتك التي لم تكتشفها بعد.  كما أن خوفك من ريادة الأعمال أو القيادة الإدارية لا يعني عدم وجود تلك الصفات فيك.  لذلك، أول علاج المخاوف هو “التجربة” ثم “الزمن”، واللذان غالبا ما يكشفان مصادر الخوف ويقلبانها مصادر طاقة أو قوة أو مهارة لديك!

6| نقاط الضعف

من المفترض ألا أخصص لهذا الجانب حظا وفيرا من المقال، والسبب أنه لو كان هناك أمر يتصدر قائمة موضوعات التطوير، سواء في مؤسساتنا التعليمية، أو في أنظمة الموارد البشرية، أو في حوارات المدراء مع موظفيهم، فسيكون ذلك الأمر “نقاط الضعف”.  تجدها في أجندات التطوير، وتجدها في أنظمة تقييم الأداء، وغالبا ما تجدها محط التمحيص والنقاش بين المدير وموظفه.  إلى درجة أن المدير قد يقفز مباشرة لبيان نقطة ضعف عند أحد موظفيه، ولكن يحسب حسابه قبل أن يثني على نقطة قوة التمسها في أدائه.

كما أن الحديث عن نقاط الضعف في سياق الأداء الوظيفي، يصبح في أحيانٍ كثيرة عبارة عن مسطرة يقاس فيها الأداء ويتم التركيز فيها على” “كيف ننقل فلانًا من الناس، من مستوى متدنٍّ إلى مستوى أعلى؟ من -٥ إلى ٠ مثلا”.  ونغفل عن جوانب التميز والتفرد والتي تفتحها لنا نقاط القوة، أو الدوافع، أو الشخصية وبمساحات أرحب!

ولكن لا يعني هذا أن نهمل فكرة نقاط الضعف، فإن ذلك في نظري من السذاجة، أو من باب العيش في حياة إيجابية وردية.  ولكن الفكرة دوما في مسألة التركيز.  فبدلا من أن تستحوذ علينا أجندة “نقاط الضعف” والتي هي سلبية بطبعها، وتصبح شغلنا الشاغل، يجب أن نعطي جوانب أخرى أولوية في حوارنا وأنظمتنا وأدائنا وتطويرنا، حتى نعزز من الإندماج الوظيفي والإيجابية في التعامل.

كما أن التعامل مع نقاط الضعف يجب أن يكون على نمطين: نمط المعالجة أو نمط التعايش.  فإن كانت لديك نقطة ضعف تحجب عنك الفرص، أو تؤصد أبواب النمو والتطوير في وجهك، كان لزاما أن تتعامل معها وتطورها حتى تتخلص منها أو تخففها.  أما إن كانت جانبية أو غير مؤثرة، أو في أحيانٍ يستصعب التعامل معها، فتستطيع عندها تقبلها والتعايش معها، ثم التعويض عنها بجوانب ذاتك الأخرى مثل نقاط قوتك.

فمثلا، لو كان لديك نقطة ضعف في العرض والإلقاء، ولا يتطلب عملك منك معالجة ذلك الجانب بشكل حرج، كان بالإمكان الاستعانة بنقاط قوتك في التعاون مع الفريق، وتنظيم وتفويض المهام، ثم الاستفادة من أحد أعضاء فريقك ممن يتسمون بالعرض والإلقاء كنقطة قوة. 

ومثال آخر، لو كانت لديك نقطة ضعف في المثابرة والإصرار، وأنك غالبا تميل إلى التسويف مع المهام الصعبة، كان بإمكانك توظيف نقاط قوتك الأخرى مثل علاقاتك الاجتماعية، وتنظيم الوقت، فتضع خطوات يسيرة تمكنك من كسر حاجز البداية، ومن ثم تستعين بمن تثق فيهم لمرافقتك وتشجيعك للبدء في خطواتك الأولى.

معرفتك بنقاط ضعفك مهم، ولكن يجب ألا يستحوذ على كل تفكيرك!

7| الاهتمامات

لولا معرفتنا واهتمامنا بجوانب معينة في عيشنا، لأصبحت حياتنا جافة مقفرة، لا تمدنا بهواء نتنفسه، ولا بماء نرتوي به، ولا بلذيذ طعام نستطعمه ونتغافل به عن همومنا.  وإن كانت المهارات هي مادة الجسد، فإن الاهتمامات هي مادة الروح وحياتها!

الاهتمامات تأخذ أشكالا عدة.  فقد تكون عبارة عن هواياتٍ تتسلى بها وتطعم جدولك اليومي بشيء تحبه، وتقضي فيه ساعات ممتعة.  وقد ترتقي إلى ميول أو توجهات أو نزعات تشكل لك ما تحب أن تختار من أعمال أو مهن.  وقد تتبلور في صورة أسمى وأعظم، في شغف يملك حواسك ويصبح شغلك الشاغل، إلى درجة أنك يمكن أن تنغمس في عملك الشغوف إلى أن تصل لما يسمى بالانسجام (Flow) وهي حالة يصبح فيها الأداء والاندماج على أعلى مستوياته إلى درجة أنك قد لا تشعر بالزمان ولا بالمكان.

فالاهتمامات التي على شكل هوايات قد تكون مثل الرياضة، أو القراءة، أو التصوير، أو الكتابة، أو التصميم، أو غيرها.  وهي أيضا نفسها التي يمكن أن تكون شغفا مع التركيز وبذل الجهد والوقت، والمال أحيانا. 

أما الاهتمامات التي على شكل ميول وتوجهات، فأفضل من تكلم عنها هو “جون هولاند” في نظريته الشهيرة عن الاهتمامات المهنية والميول المهني (RIASEC)، والتي ذكر فيها ستة اهتمامات رئيسية يصبح بعضها (٣ غالبًا) هي السمة المميزة لك.  وليس ذلك فحسب، بل إن المهن نفسها تتسم بنفس السمات الستة، ويبرز بعضها (أيضا ٣ غالبًا) للمهنة الواحدة.  ويصبح التوافق بين ميولك المهني وميول مهنتك هو سر رضاك وأدائك العالي في وظيفتك.  تحدثت عن الاهتمامات المهنية في تغريدات سابقة هنا.

ولا يمكن أن أمر على الشغف مرور الكرام، فهو حقيقة شغلي الشاغل دوما، من ضمن مواضيع أخرى مثل: التحفيز ونقاط القوة والقيم.  وعندما نتكلم عن الشغف، فإنه لا بد من الإشادة بعمل الباحث وعالم النفس “روبرت ڤاليراند” في كتابه العميق – وصعب القراءة حقيقة! – (The Psychology of Passion: A Dualistic Model).  وحق علي أن اختصر أهم نقطة في الكتاب وهي: كيف يمكن أن نعرف الشغف؟

ولا ننسى أخيرا، أن نصيحة “اتبع شغفك” ملغومة وعواقبها أحيانا سيئة. والنصيحة الصحيحة هي أن تكتشف شغفك وتبني مهاراتك وخبراتك حتى تكون ذراع عزم لتحقيقها، وأن تعرف أن العملية تحتاج لصبر وواقعية. تحدثت عن ذلك في تغريدات سابقة.

8| القيم

القيم تعني بكل بساطة: “المبادئ والمعتقدات التي تهمك، والتي غالبا ما تشكل قراراتك، وترشّح اختياراتك، وتحكم سلوكياتك وتصرفاتك اليومية”.  ويجدر الحديث هنا أنه بدون هذه الجزئيات الأساسية، تصبح القيم مجرد شعارات لا معنى لها ولا انعكاس لها على حياتك الشخصية والمهنية. 

فمثلا، من السهل جدا أن تجد من يتغنى بـ “الصدق والأمانة”، ولكن لا تجده يصدق مع أقرب أقربائه، عداك عن صدقه وأمانته مع الآخرين.  ويمكن أيضا أن تجد من يفخر بوجود “العدل والمساواة” كقيمة من قيمه التي يقدسها، فردا كان أم فريقا أم منظومة أم مجتمعا، ولكن لا تجده يطبق مبادئ العدل والمساواة في قراراته أو تصرفاته.  ويمكن أيضا أن تجد من يضع “العائلة” أو “المتعة” من ضمن قائمة قيمه التي تهمه، إلا أن حظ عائلته أو متعته في وقت شغله وفراغه تكاد تكون معدومة.

وأمر آخر، هو أن القيم هي من أصعب الجوانب اكتشافا وأصعبها التزاما.  لأنها تعتمد على زخم التجارب وصدقها، وكذلك تتطلب التعامل والالتزام بها في أحلك الظروف ومع أصعب الشخصيات.  لذلك، لا غرابة أن تجد القيم، من بد الجوانب الثمانية كلها، هي من أكثر الجوانب التي يتحدث عنها الناس، ولكن لا يعيشونها!

كما أنه من الخطأ أن نقول أن كل القيم إيجابية، فهناك قيم سلبية أيضا.  وأفضل من تكلم عن ذلك هو عراب القيم “ريتشارد باريت” في نموذجه عن القيم بمستوياته السبعة.  وكيف أنه أبدع في طرح فكرة أن الإنسان بطبيعته النفسية، وحسب مرحلته العمرية، تتغير قيمه وتنتقل من مستوى لآخر على المستويات السبعة.

لماذا كلمة “دولاب”؟ معاني أخرى لـ دولاب الذات

قد عرفت الآن عندما أسألك: “ماذا يحوي دولابك؟”،  أني لا أسعى لمعرفة محتويات خزانتك في البيت، ولا ما تشمله خزانة مكتبك في العمل.  وأيضا عرفت أن المرمى من سؤالي ليس الغرض منه الحصول على جواب، رغم أن أذني قد تطرب لسماعه، وقد يخالجني الشوق أن أعرف قصة كل جانب من هذه الجوانب بأسلوبك أنت، وفي زخم تجاربك وسياق حياتك.  وهذا حقا ما أقوم به في التوجيه المهني للآخرين.  ولكني أقصد بسؤالي حقيقة، أن أحفزك لاستكشاف الجواب بنفسك، وأن تبحر في ذاتك، لتعرفها حق المعرفة.  فهي في نهاية المطاف، أولى بالمعرفة والتقليب من دواليب حياتك المادية.

إلا أن الموضوع لا يقف عند ذلك، فقد اخترت مسمى “دولاب” لغرضين آخرين!

الغرض الأول: هو انعكاس لكلمة “دولاب” والتي تعني العجلة في لغتنا العربية، ذلك الاختراع الدائري الذي يسهل حركة المركبات والعربات.  والغرض من اختياري لهذا الاسم، ولهذا المعنى تحديدا، أن دولاب الذات يصبح بمثابة العجلة في حياتك، والتي تمكنك من التحرك والتطور بيسر وسهولة.  دولاب الذات يمكّنك من الوصول لمرادك إذا استخدمته جيدا ووظفته كعجلة تنمية لحياتك الشخصية والمهنية.

الغرض الثاني: هو انعكاس لكلمة “دولاب” والتي تمثل الهيكل الدوار، والذي غالبا ما نعرفه من المسابقات والبرامج التلفزيونية.  وفيه يقول أحدهم بتحريك الدولاب ليدور دورات سريعة، ثم يتباطأ حتى يستقر على موضع معين.  يصبح بعدها هذا الموضع محط النقاش أو السؤال.  وهذا ما أرمي إليه، وهو أن تكون لديك العادة أن تقوم بتدوير دولابك بين الحين والآخر، وإن استقر على أحد الجوانب الثمانية، تسأل نفسك:

  • ماذا أعرف عن هذا الجانب من نفسي؟
  • مالذي اكتسبته حتى الآن من هذه المعرفة؟
  • ما هو الاختبار أو التقييم الذي يمكنني عمله لأزيد من وعيي بهذا الجانب؟
  • ما حظ هذا الجانب من حياتي الشخصية أو المهنية؟ وما تأثيره عليها؟
  • كيف يمكنني أن أتعامل مع هذا الجانب أو استغله أو أتكيّف معه؟

والسبب في الغرض الأخير، أن رحلة اكتشاف الجوانب الثمانية قد تكون رحلة شاقة ومضنية – رغم أنها مثمرة ومفيدة! – ولن تستطيع التعامل مع كل الجوانب وتكتشفها في آن واحد.  وخصوصا أن بعضها يتغير ويتشكل مع تقدم العمر، مثل الدوافع والقيم مثلا.  لذلك من الجميل أن تتعامل معها بشيء من المتعة وروح المسابقة والتحدي، وكأنها دولاب معلق على جدار غرفتك أو مكتبك، تقوم بتدويره عشوائيا بين الحين والآخر لترى أي الجوانب يستقر عليها فيكون مبحثك عندها.

وماذا بعد أن عرفت نفسي؟

ويتكرر هذا السؤال دوما، ليس في سياق دولاب الذات وجوانبه الثمانية فحسب، ولكن في كل جانب يستلزم منا بحثًا وتقييمًا واكتشافًا.  وأختصر ذلك في أن المعرفة مهما كان مجالها، وخصوصا في الجوانب الثمانية أعلاه، تعطيك ليس فائدة واحدة أو اثتنين، وإنما أربع مستويات من الفائدة كما طرحتها في تغريدات سابقة، يبني بعضها على بعض.

أولها، أن معرفتك بذاتك تشكل مصدر راحة بالنسبة لك.  لأنك حينها تكون على دراية بما يدفعك، أو يميزك، أو يزعجك.  تكون على اطمئنان مثلا أن قرارا اتخذته كان بسبب امتثالك لقيمة من القيم التي تقدرها.  تعرف مثلا أن ما كان يحجب عنك بعض الفرص كان بسبب نقطة ضعف أو مصدر خوف تكنّه نفسك.  وابن آدم، معروف بأنه يتساءل ويبحث عن الأسباب بفطرته، لذلك إذا عرف السبب بطل العجب.

ثانيها، أن معرفتك بذاتك تساعدك على تقبل نفسك وتقبل الآخرين كذلك.  فعندما تعي جيدا أن أسلوبك في التفكير أو اتخاذ القرار ينم عن نمط شخصيتك، كان بالأحرى تقبلك لذلك.  كما أن معرفتك لنقاط الضعف أو المخاوف عند فريقك، يجعلك تتقبلهم كما هم أولا، قبل أن تقدم على أي خطوة أخرى.  فالتقبل عادة ما يكون مفتاحا للتكيّف والتغيير، وعدمه يكون مغلاقًا للفرص و مخلافًا لعلاقاتك بالآخرين.

ثالثها، أن معرفتك بذاتك يساعدك على خطواتك الأولى في التكيّف مع الظروف والأشخاص على اختلافهم معك.  فعندما تعرف أن دوافعك تختلف عن دوافع فريقك أو منظومتك، أو أن القيم التي تعيشها ليست على وفاق تام معهم.  فإنه براحتك لمعرفة السبب (المستوى الأول)، وتقبلك للاختلاف (المستوى الثاني)، تصبح خطواتك للتكيف والتعايش أيسر.  وأن تعي أنك ستكون في منطقة عدم الراحة، وأنك تخرج عمدًا منها، حتى تحقق أهدافا أكبر، كأن تنجز العمل، أو تحافظ على وظيفتك، أو تبقي على دخلك، أو تحمي علاقتك مع من تحب، وهكذا.

رابعها، أن معرفتك بذاتك يساعدك على عمل التغيير والذي قد ترى أنه من الضروري القيام به.  فعندها يمكنك إحداث التغيير على مستواك الشخصي، كأن تنتقل من مكان لآخر، أو أن تقوم بالتغيير على مستوى الآخرين، كأن تعمل على بيان أو زراعة دوافع معينة، أو بلورة قيم جديدة تراها أنسب لفريقك أو منظومتك، أو حتى أهل بيتك.

ويجدر الحديث هنا أن المستويات الأربعة يجب أن تبني على بعضها البعض، فلا نقفز للتغيير قبل التكيّف، ولا نتكيف قبل أن نتقبل، ومن الطبيعي أن يكون كل ذلك منطلقه الراحة من معرفة أنفسنا مقارنة مع الآخرين.

خلاصة

ونصل إلى الختام هنا.  استعرضت أهمية اكتشاف ذاتك، وكيف أنها أولى من معرفتك الدقيقة لما تمتكله من ماديات.  وطرحت نموذج الجوانب الثمانية، وماذا يعني كل منها في مختصر أرجو أن تكون وجدته مفيدا.  ثم تطرقت لفكرة مسمى “الدولاب” وكيف أني اخترته ليعكس معاني ثلاثة مهمة في معرفة ذاتك: فالدولاب بمثابة الخزانة تقلب محتوياتها وتقسيماتها، والدولاب بمثابة العجلة تحركك وتوصلك لمرادك، والدولاب بمثابة الأحجية الدوّارة التي تختار منها من حين لآخر لتكتشف وتتساءل!

أرجو لك رحلة ممتعة في معرفة نفسك وزيادة وعيك بذاتك، ودمت سالمًا.

4 thoughts on “ماذا يحوي دولابك؟

  1. Hamad Abdulrazaq ردّ

    اشكرك يا استاذ على وقتك ومعلوماتك التي افدتنا فيها واثريتنا ، شكراً لوقتك وجهورك وبارك الله فيك وفي علمك.

  2. Nora Al Zahrani ردّ

    بارك الله في علمك وجهدك

اترك رداً على Nora Al Zahraniإلغاء الرد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.